الأب ميلييه

” إذا كنتم لا تنتظرون اللامتوقع، فأنتم لا تنتظرون الحقيقة.”
هيروقليدس

هو جان ميلييه (Jean Meslier)المولود في قرية مزرني الصغيرة الواقعة على الحدود الفرنسية البلجيكية (الحالية) عام 1664 والمتوفّى سنة 1729. لقد تغذّى من فكر الفيلسوف ديكارت والتحرريين (الليبرتيين) وسبق فلاسفة عصر الأنوار إلى كثير من الأفكار الرائدة المتعلقة بحرية النظر العقليّ، بل تجاوزت جرأته جرأتهم أحيانا. سمح له وضع والديه غير المزري ليواصل دراسته الدينية ليصبح قسّا، وإن لم يكن متحمّسا لذلك بقدر ما كان مهتمّا بالقراءة والمطالعة والحياة الهانئة التي توفّرها له المدرسة الداخلية.
بعد تخرّجه سنة 1688 عيّن على أبرشية إتريبنييه غير البعيدة عن مسقط رأسه، فكان لمدّة أربعين عاما كاملة ذلك القسّ اللطيف المحبوب من جمهور المؤمنين المعدمين إذ لم يكن يتوانى في تقديم ما يستطيع من عون ومحبّة وتقدير للمستضعفين.

كان مُزلييه راهبا جيّدا، أدّى كلّ ما عليه من واجبات تجاه كنيسته وروّادها، ويوم أتاه الأجل لم يبخل الناس البسطاء ولا زملاؤه رجال الدين في التنويه بفضائله وإنسانيته العالية، وقد كان مقرّرا أن يدفن في المقبرة المحاذية للكنيسة التي خدمها قرابة نصف قرن من الزمن دون ملل ولا كلل.

إلى هنا كلّ شيء سار على ما يرام. ولكن سرعان ما حدث ما لم يكن في الحسبان، إذ أصيب أهالي البلدة وقساوسة المنطقة بالذعر حينما اكتشفوا القنبلة الموقوتة التي كان يركّبها ذلك القسّ الطيّب في سرّية تامّة طيلة أربعة عقود، وكانت عبارة عن وصيّة فلسفية – سياسية موجّهة إلى جمهور القرية والناس أجمعين. كان العنوان وحده كافيا ليجعل من خطابه المكتوب أمّ الفضائح بالنسبة للسلطة الكنسية، وضربة موجعة لكلّ أطياف الكهنوت المسيحيّ اليهوديّ وما فرّخه من أديان :
“مذكّرة أفكار وآراء جـ.ميلييه حول قسم من زلات وتجاوزات سلطة البشر، حيث نقف على براهين واضحة وبديهية تبيّن تفاهة وزيف الآلهة طرّا وكلّ ديانات العالم، وهي موجّهة إلى أعضاء كنيسته وإلى معشر الناس، لتكون لهم شهادة حقّ بعد موته.”
هل يدفن من يحاول هدم أركان كلّ إيمان في مقبرة كنيسة، وسط جموع المؤمنين بالتثليث؟ فهل تجد لها مكانا جثّة من كان يتمنّى أن يشنق ويخنق كلّ أقوياء الأرض ونبلائها بأمعاء آخر القساوسة؟ كان دفنه في مقبرة كنيسته أو أية مقبرة عادية أخرى يمثّل تدنيسا للمكان ولأرواح الموتى المؤمنين بالربّ وابنه في نظر السلطات الدينية. وإن لم تكن لها الشجاعة الكافية للجهر بذلك خوفا من ردّة فعل الفلاحين الذين كانوا متعلّقين براهبهم الطيّب. ولم يتجرّأ هؤلاء على تنظيم مراسيم تكفير، فقد عملوا على طمس “الفضيحة” مسارعين إلى دفن جثته دون تقييد موته حتى في سجلات الكنيسة الرسمية. وإلى اليوم لا أحد يعرف للراهب الملحد قبرا رسميا.

لقد حاول الكهنوت الحاقد طمس كلّ أثر من آثاره المادية، أن يزيله من الوجود المعنوي نهائيا باغتيال مخطوطه. ولكن كان ميلييه أذكى من أعداء العقل إذ أمضى ليالي بيضاء في استنساخ الصفحات تلو الصفحات، وهكذا تمكّن من وضع أكثر من نسخة في أمكنة آمنة متفرّقة. ولئن كنا لا نعرف تفاصيل ذلك الإجراء فقد وصل ميلييه إلى مبتغاه، فلم تمض سوى بضع سنوات حتى بدأ النص يشقّ طريقه في ربوع أوروبا طولا وعرضا.

لكن ماذا يقول لنا ميلييه في ذلك النص الملعون؟

اطلع على مؤلّفات كثير من المفكّرين النقديين، وكان قارئا نهما أيضا للفيلسوف ديكارت، ولكنه ذهب أبعد منه بكثير، أو بالأحرى دفع بالمبادئ الديكارتية النظرية إلى نتائجها العملية القصوى، فعلى عكس صاحب”مقال في المنهج”، لم يعد القسّ يؤمن سوى بالمنهج العقليّ، بالعقل وحده. ولم يستثن أمرا من نظره النقديّ العقليّ. وهكذا وصل إلى أنّ كلّ الديانات، بما فيها تلك التي خدمها مدّة 40عاما، هي من ابتداع أوغاد بغية قهر الشعب، وما الكتاب الذي يقدّم على أنّه كلام الربّ سوى تضليلٍ للعباد. درس صاحبنا الكتاب المقدّس بعهديه ذهابا وإيّابا كما يقول محبّو الكرة، فضلا على أنه اطلع حتى على قراءات الذين لم ينظروا إلى التوراة سوى على أنها مجرّد نتاج تاريخيّ كبايل واسبينوزا. وقد ذهب في مواضع من كتابه إلى أنه كثيرا ما خطرت على باله أن قصص التوراة لا يمكن أن تصدر سوى عن مرضى عقليين. أما المسيح الذي ادّعى أنّه ابن الربّ فما هو في نظر القسّ العقلانيّ سوى متعصّب بائس لا يبدو سوى صورة باهتة مقارنة مع دون كيشوته.

أكّد على تناقضات الكتاب المقدّس ولاعقلانيته البادية للعيان، وتعجّب من ربّ يتدخّل شخصيا لمنع ملك من مضاجعة زوجة إبراهيم، أو اهتمامه بغلفة قضيب هذا الأخير! ولا يتوانى في السخرية من التسويغات المقدّمة من طرف الكهنوت لتسويق فكرة التثليث التي تتحدّى الحسّ السليم، إذ كيف يعقل أن ينجب الربّ ابنا ثمّ يكونان معا الروح القدس؟ يجب أن يفقد المرء عقله كي يصدّق ويدافع عن أفكار في غاية السخف كهذه، يقول. في النص امتعاض وتنديد بما تتعرّض له حيوانات بريئة من ذبح بشع لإشباع رغبات سادية لربّ يتلذّذ بتسييل الدماء.

ميلييه كان ماديا في فهمه للوجود بامتياز، فلئن قال بوجود الروح فبمعنى المبدأ الحيوي الذي يموت مع الجسد ذاته، وليس ذلك الكيان المتوهّم الثابت الذي يؤثّر ولا يتأثّر. فلا واقع حسبه غير الواقع المادّي. فكلّ شيء من المادّة وإليها يعود. ولا مصدر للعالم الذي نلاحظه سوى التطوّر البطيء لهذه المادة.

فما أحلى هذا الكلام في فم قسيس!

إن الكنيسة الكاثوليكية لعلى ضلال مبين حينما تنبذ المتعة وتمجّد العذاب والألم. فهي حسب الراهب الملحد تجد الخير في الشرّ والشرّ في الخير. ولكن ما أثار تمرّده أكثر هو انحياز الكنيسة للجبابرة الذين كانوا يسحقون الشعوب. ولكنه لا يتعجّب فمنذ غابر الأزمان كان الدين يؤازر السلطة والسلطة تؤازر الدين، ويضرب مثلا إبراهيم الذي كان أوّل المضللين، ألم يكن يتخفّى تحت ذرائع إلهية لتبرير سياسته التوسّعية؟

ومن أخطر ما فعلته الكنيسة في رأي الراهب اللطيف هو استغلال الجماهير الفجّ عن طريق الضرائب الجائرة، والتي يوظّف جزء منها لنشر ثقافة لاعقلانية تجعل هؤلاء العبيد البائسين لا يقبلون وضعهم فحسب، بل يعتقدون أنه قدر من الله محتوم. وهكذا تفعل كلّ عقيدة دينية، يقول رجل الدين، فهي تُرهّب بالجحيم وتُرغّب بالنعيم. ولم يكتف ميلييه بتشخيص المرض بالدين بل دعا إلى الثورة على الوضع. فلا إمكانية لتحسين الأمور إلا عن طريق السياسة، وتكون أولى الخطوات في القضاء على كلّ الأنذال الذين يخدعون الناس منذ آلاف السنين.
لا يشعر المرء (ة) إلا بالإعجاب وهو يقرأ أفكارا كتبها صاحبها في فترة نهاية عهد لويس الرابع عشر الحزين الذكر وما تلاها من سنوات عجاف، أي قبيل قرن من اندلاع الثورة الفرنسية وأكثر من قرن على ظهور كارل ماركس وبيانه الشيوعي. ما العمل؟ سؤال طرحه ميلييه قبل غيره وأجاب دون لف ولا دوران وبأمانة فكرية لا يجرؤ عليها أشباه العقلانيين اليوم :
تحضير التمرد عن طريق توعية الناس بأسلوب حذق. الدعوة والعمل على توحيد المظلومين تحت راية الصالح العام. القضاء على الدين لأنه دائما في خدمة الأقوياء ويساهم في تنويم وعي الناس. و بهذا يتم إبعاد كل المستغلين لعمل الغير. وسيجبرون على العمل كغيرهم حينما تلغى الملكية الخاصة ويبدأ استغلال الموارد لصالح الجميع. و لن يتم ذلك سوى بالكف عن خدمة الأغنياء المتطفلين والقضاء كل المستبدين قضاء مبرما.

يتوجّه بكلمات للمستغَلين آنذاك لا يقولها حتى بعض النقابيين في العالم العربي اليوم : “خلاصكم هو بين أيديكم، فلا يأتي الفرج إلا منكم وبكم. لو توحّدتم بشكل جيّد، فسيكون لديكم كلّ الوسائل وكل القوى الضرورية لتستعيدوا حريتكم!”

فحتى الفيلسوف فولتير نفسه، الذي كان مؤمنا على عكس ما هو شائع عنه اليوم، وجد في أطروحات القسّ شيئا من التطرّف، فحاول إخفاء المخطوط قرابة ثلاثين عاما وعندما علم بوجود نسخ هنا وهناك طبع مخطوط ميلييه ولكن بعد أن حذف ما كان يراه تهديدا للسلم الاجتماعي، وهكذا حوّل الفيلسوف نصّ القس الثوريّ إلى نص فاتر ، بل مسخ كاتبه وحوّله من ملحد إلى مؤمن!

كيف يمكن أن يكون غير ملحد من يكتب ناقدا الوضع البشريّ قائلا : “حينما تعمي الأحكام الدينية المسبقة الإنسان، سيصبح من المستحيل عليه أن يعرف طبيعته ولا تطوير عقله أو أن يعيش تجارب جديدة. سيهاب من الحقيقة بمجرّد أن لا تتوافق مع آرائه. يساهم كلّ شيء في جعل الشعوب متعبّدة، ولكن كلّ شيء يقف أمامها كيلا تغدو إنسانية، عاقلة، فاضلة. يبدو أن ليس للدين من هدف سوى تضييق قلب الإنسان وعقله”.
وكيف يمكن أن يكون مؤمنا من يلج إلى كنه الدين وكأنه يفسر الإرهاب الأصولي الحالي : “لا يعني الموت في سبيل دين ما أن ذلك الدين إلهيّ المصدر إذ لا يثبت موت رجل متحمّس من أجل دينه شيئا سوى أنّ التعصّب الديني أقوى من حبّ الحياة في أغلب الأحيان.”
لم يكن فولتير وحده من شوّه أفكار ميلييه، بل نهبت أفكاره ومسخت من لدن كثير من الفلاسفة لم يتفضّلوا حتى بذكر اسمه.

رحم الله ميلييه وأسكنه فسيح الجنان! كدت أقول وكان الله في عون آلاف “ميلييه” الوطن العربي الذين يمارسون حسهم السليم في سرّية ورعب في بداية الألفية الثالثة.

المصدر الأون

أضف تعليق